سورة النحل - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى في الآية السابقة: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ} ناسب أن يجىء بعدها بيان لما في القرآن الكريم من تبيان لكل شىء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين.. وهذا ما ضمت عليه هذه الآية:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ..}.
فما في القرآن الكريم كله، هو دعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء، والمنكر والبغي.
فالعدل هو القيام على طريق الحق في كل أمر.. فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم، فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير.
ومن أتبع العدل بالإحسان، انما الخير في يده، وطابت مغارسه التي يغرسها في منابت العدل.
وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا، ليحتوى العدل كله، ويشمل الإحسان جميعه.. فهو عدل عام شامل.. حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجوز عليها بإلقائها في التهلكة، وسوقها في مواقع الإثم والضلال.. ويعدل مع الناس فلا يعتدى على حقوقهم، ولا يمدّ يده إلى ما ليس له. ويعدل مع خالقه، فلا يجحد فضله، ولا يكفر بنعمه، ولا ينكر وجوده وقيّومته عليه، وعلى كل موجود.
كذلك الإحسان، هو إحسان مطلق، يتناول كل قول يقوله الإنسان، وكل عمل يعمله.. وإحسان القول أن يقوم على سنن العدل، والحق والخير.
وإحسان العمل ينضبط على موازين الكمال والإتقان.. كما بقول سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195: البقرة].
بل إن الإحسان، هو الإيمان باللّه على أتم صورة وأكملها، بحيث لا يبلغ درجة الإحسان، إلا من عبد اللّه على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم، في قوله حين سأله جبريل، وقد جاء على صورة أعرابى، فقال: «ما الإحسان؟ فقال صلوات اللّه وسلامه عليه:أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..».
وقوله تعالى: {وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى} هو عدل وإحسان معا.. والإيتاء هو الإعطاء، وفعله آتى، بمعنى أعطى.. ولا يستعمل الإيتاء إلا في مقام البرّ والإحسان.. والبر بذي القربى هو عدل، لأنه وفاء لحق القرابة، وهو إحسان إذا قدمته النفس في سماحة ورضى.
وقوله تعالى: {وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} هو نهى عن محظورات، في مقابل ما أمر اللّه به من عدل وإحسان، وبرّ بالأقارب.. وفى توارد الأمر والنهى على أمر من الأمور، توكيد للإتيان بالمأمور به.
فالفحشاء، ما قبح من الأمور، وعلى رأسها الزنا.
وإتيان الفاحشة ظلم للنفس، وعدوان على حرمات الناس.. وفى هذا مجافاة للعدل.
والمنكر، كل ما تنكره العقول السليمة على من يفعله.. سواء أكان قولا أو فعلا.. ولا يكون هذا إلا بالتخلي عن الإحسان في القول أو العمل.
والبغي: الجور، والظلم، وهضم الحقوق. وهو مجف للعدل والإحسان معا.
وقوله تعالى: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} هو تنبيه لما تحمل آيات اللّه للناس من آداب. وأحكام، تدعو إلى الحق، والخير، وتذكّر بهما، وتفتح للعقول الراشدة والقلوب السليمة طريقا إليهما.
وهذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها.. فهى أقرب شيء إلى أن تكون عنوانا للرسالة لإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}.
وما في كتاب للّه كله هو شرح لما أمر اللّه سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}.
العهد: الميثاق، يكون بين الناس والناس، أو بين الناس ورب الناس.
وعهد اللّه.. هو العهد الذي يوثق باسمه، ويقام تحت ظل سلطانه.
ونقص العهد: نكثه، وعدم الوفاء به.
والكفيل: هو الضامن لما كفل من عهد.
ومعنى الآية الكريمة، هو أمر ملزم للمؤمنين باللّه بالوفاء بعهد اللّه، الذي وثقوه باسمه، وجعلوه كفيلا وضامنا لما عاهدوا عليه.. إذ كان باسمه تعالى أمضى المتعاهدان ما تعاهدا عليه.. فأعطى أحدهما ما تعهّد به وعدا، وأقام اسم اللّه تعالى كفيلا على هذا الوعد، وقبل الآخر ما أعطى الأول، مطمئنا إلى كفالة اللّه، وإلى أن صاحبه لن يخون عهد اللّه! وإنه لجرم عظيم أن يعطى الإنسان عهدا باسم اللّه، ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلا إلى ثقة الناس به، واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة! إنه عدوان على اللّه، ومخادعة باسمه، وسرقة تحت ستار من جلال اللّه وخشيته..!
وتلك جرأة على اللّه، واستخفاف بقدره، وليس لمن يتعرض لهذا، إلا أن ينتظر ما يحلّ به من غضب اللّه ونقمته.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} تحذير من نكث العهد، ومن التلاعب باسم الحق جل وعلا.. فهو- سبحانه- يعلم من بفي بعهده، ويعرف لاسمه الكريم جلاله، ومن لا يوقّر اللّه، ولا يحفل بالعهد الذي قطعه، وأشهد اللّه عليه.. واللّه- سبحانه- غيور على حماء أن يستباح.. فمن استباحه، فقد أورد نفسه موارد الهالكين.
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
الغزل: ما يغزل من صوف، وغيره.. ونقض الغزل: حلّه بعد فتله وغزله، فيتقطع، ويتفتت، ولا يعود إلى مثل حالته الأولى لو أعيد غزله، كشأن من بينى ثم يهدم ما بنى.. فلو أراد أن يبنى بما هدم، لا يستقيم له بناء.
والأنكاث: جمع نكث، وهو ما يكون من خيوط النسيج بعد نقضها، لإعادة غزلها ونسجها، بعد أن تصبح قطعا مهلهلة.
الدّخل: الفساد. والأمة: الجماعة. وأربى: أكبر قوة، وأكثر عددا.
وهذا مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى لمن يعطون العهد باسمه تعالى، ثم ينقضون ما عاهدوا عليه.. فهؤلاء هم أشبه بامرأة خرقاء، تغزل غزلا محكما، ثم تعود بعد هذا فتنقض ما غزلته، وأجهدت نفسها فيه.. وهذا لا يكون من عاقل، يحترم عقله، ويعرف لآدميته قدرها.. وهؤلاء الذين أعطوا العهد باسم اللّه ثم نقضوه، كانوا قد أحكموا أمرهم، ووثقوه ثم أفسدوه، وأحلّوا أنفسهم من هذا الميثاق الذي واثقوا اللّه عليه.
وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} جملة حالية.. فهم إذ يتخذون أيمانهم التي يوثّقون بها العهود بينهم. ثم ينقضونها- هم أشبه بتلك المرأة التي تغزل غزلا، ثم تعود فتنقضه، قبل أن تنسجه، وينتفع به! وقوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} هو تعليل لنقص العهد، واتخاذ الأيمان ذريعة للإفساد، وتلبيس الأمور على الناس، وذلك أن هذا النكث بالعهد كان ممالأة لجماعة قوية على حساب جماعة ضعيفة. أي أنكم تتخذون أيمانكم التي لا تبرّون بها، للإفساد لا للإصلاح، حين تميلون عن الحق، وتنحازون إلى جانب الأقوياء، فتنقضون العهد الذي كان بينكم وبين الجانب الضعيف، لتتحولوا بذلك إلى الجانب القوي.
وهذه الآية خاصة بحال من أحوال نقض العهد، وهى تلك الحال التي يكون الداعي فيها إلى نقض العهد هو الميل إلى جانب الأقوياء، والتخلّي عن جانب الضعفاء، وذلك بأن يكون الناقض للعهد، بينه وبين جماعة عهد موثق، فإذا رأى جماعة أخرى ذات شوكة وقوة انضمّ إليها، ونقض عهده الذي كان بينه وبين الجماعة الضعيفة، غير ملتفت إلى هذا العهد الذي بينه وبينها.
أما ما يتصل بنقض العهود عامة، فقد جاء في قوله تعالى بعد هذه الآية:
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها... الآية}.
قوله تعالى: {إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}.
الضمير في به، يعود إلى {عهد اللّه} الذي جاء ذكره في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ}.
أي أن هذا العهد يقطعه المرء على نفسه، ويجعل اللّه كفيلا عليه فيه- هذا العهد، هو ابتلاء من اللّه، وأمانة من الأمانات التي يطالب الإنسان بصيانتها والوفاء بها.
فمن وفّى بالعهد فقد أبرأ ذمته، واستحق الجزاء الحسن من ربه، ومن نكث، فهو غريم للّه سبحانه وتعالى، وسيقتصّ اللّه منه.
قوله تعالى: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
هو معطوف على محذوف تقديره: {ليعلم}.
ومعنى الآية مرتبط بالآية قبلها، والمعنى: أن اللّه سبحانه وتعالى، إنما ابتلاكم بهذا التكليف، وهو الوفاء بالعهود، ليعلم المفسد من المصلح، والناكث للعهد والموفى به، وليبين لكم يوم القيامة هذا الذي أنتم مختلفون فيه، بين مفسد ومصلح، وعاص ومطيع، وناقص للعهد، وموف به.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي هذا الخلاف الواقع بين الناس، هو مما قضت به حكمه للّه فيهم.. فلو شاء اللّه لجعل الناس أمة واحدة، تجرى أمورهم جميعا فيها على نمط واحد، كما هو شأن الأمم الأخرى من عالم الحيوان، لا اختلاف بين أفراد الأمة الواحدة منها، في سلوكها، وفى منازع حياتها، وأسلوب معيشتها، حيث تسير جميعا في طريق واحد، وعلى اتجاه واحد، لا يشذّ عنه فرد من أفرادها.. وليس كذلك شأن الناس، فكل فرد، هو أمة في ذاته. له مدركاته، ومشاعره، وأنماط سلوكه.. بحيث لا يكاد يتشابه إنسان بإنسان، أو يلتقى إنسان مع إنسان، لقاء مطلقا! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [118: 119 هود].
على أن اختلاف الناس هذا الاختلاف الذي لا يتشابه فيه إنسان مع إنسان، ليس بالذي يفرّق بينهم، أو يقطع علائق الإنسانية التي تشدّ بعضهم إلى بعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، فهم وإن تفرقوا مدركات، وطبائع، ومنازع، واختلفوا مشارب ومسالك وسبلا- هم مجتمعون على مورد الإنسانية، حيث يجتمعون شعوبا، وقبائل، وأمما.. ثم تضيق شقّة الخلاف بينهم شيئا فشيئا، حتى تكون خطا واحدا يفصل بين المجتمع الإنسانىّ كله، ويجعله فريقين: مؤمنين وكافرين.. مهتدين وضالين. حتى لكأن ذلك في أصل خلقتهم، كما يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
وقوله تعالى: {وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ}.
هو بيان لمشيئة اللّه الشاملة، التي إليها إضلال الضالين، وهداية المهتدين.
وفى قوله تعالى: {وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تحريك لمشيئة الإنسان وإرادته، مع إرادة اللّه سبحانه ومشيئته.. وذلك حتى لا يعطل الإنسان وجوده كإنسان له إرادة، وله مشيئة.
فمطلوب من الإنسان أن يعمل إرادته ومشيئته، وأن يحركهما في الاتجاه الصحيح الذي يقضى به العقل، وتدعو إليه الشرائع السماوية، وتحدده القوانين الوضعية.
وكما لا يعفى الإنسان نفسه من التحلل من القوانين الوضعية، بل يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له إن هو خرج عليها- كذلك ينبغى ألا يعفى نفسه من التحلل من القوانين السماوية، بل يجب أن يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له إن هو خرج عليها.. فهذا من ذاك.. سواء بسواء.
إن الإنسان مسئول عن تصرفاته كإنسان رشيد، وليس من شأنه أن يسأل اللّه سبحانه وتعالى عن مشيئته فيه، وما يريده به.. فذلك إلى اللّه وحده.
يقضى فيه بما يشاء ويريد.!
قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
هو توكيد للوفاء بالعهود والمواثيق التي أعطيت باسم اللّه، وتحذير من الاستخفاف بجلال اللّه الذي أشهد على هذه العهود والمواثيق.. فإنّه لا يجرؤ على النكث بعهد اللّه إلا من استخفّ باللّه، واتخذ من اسمه الكريم وسيلة يتوسّل بها إلى الغدر بالناس، وأكل أموالهم بالباطل.. وذلك إن لم يكن كفرا صريحا، فإنه مدخل واسع إلى الكفر!- وفى قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} إشارة إلى أن الاستخفاف باسم اللّه، ونقض العهد الموثّق باسمه، هو مزلق إلى الكفر، حيث ينزلق الإنسان شيئا فشيئا إليه، فتزل قدمه عن طريق الحق، فإذا لم ينتزع نفسه، مما وقع فيه، مضى به الطريق إلى حيث يضع قدميه جميعا على طريق الضلال.. ثم يمضى فيه إلى غايته.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا».
وقوله تعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} هو بيان للنهاية التي تنتهى إليها حال من يستخفّ باسم اللّه، حتى لا يبالى بما يعطى أو يأخذ به.. كاذبا، حانثا.. فمثل هذا الإنسان لا بد أن يرد يوما موارد الكفر، ويتحول من الإيمان باللّه، إلى الكفر به، إذ صدّ عن سبيل اللّه الذي كان قائما عليه، وولى وجهه نحو الضلال، وثبت أقدامه عليه.
وليس لمثل هذا الإنسان إلّا أن يذوق السوء والهوان في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو تحذير، بعد تحذير، بعد تحذير، من الاستخفاف بعهد اللّه، وبالأيمان التي يحلف بها الحالفون باسمه.. إذ أن ما يبتغيه الناكثون لعهد اللّه، والحانثون بيمينه، هو التوسل إلى الحصول على متاع من متاع هذه الحياة الدنيا بغير حق.. وهذا المتاع وإن كثر، هو إلى زوال، وهو قليل إلى ما يعقب من خسران وحسرة وندامة في الدنيا والآخرة.. فلو أن الإنسان الذي أعطى عهدا باسم اللّه، حفظ هذا العهد، ووقّر اللّه فلم يحنث بيمينه، ووطن نفسه على الصبر إزاء هذا المتاع الزائل الذي يلوح له من وراء الحنث بيمينه- لو أنه فعل هذا لوجد عاقبة ذلك خيرا كثيرا، وجزاءا حسنا جزيلا عند اللّه، ولتقبّل اللّه تعالى منه هذا العمل الطيب، وجعله له عدّة في الدنيا، وزادا كريما طيبا في الآخرة، لا يخالطه خبث مما عمل من سيئات، كما يقول الحق جلّ وعلا: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ} [16 الأحقاف].
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
هو حكم عام بالجزاء الحسن على العمل الصالح مطلقا، بعد الحكم الخاص بالجزاء الحسن على الوفاء بالعهد، والصبر على احتمال تبعات الوفاء به.
فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند اللّه، سواء ما كان منها من قول أو عمل، وسواء أكانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد اللّه.. فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتباين صورهم وأشكالهم، سواء عند اللّه، يخضعون لقانون سماوى عام، لا محاباة فيه، ولا تفرقة بين إنسان وإنسان.. إلا بالعمل.
وقد خصّ الذكر والأنثى بالذّكر هنا، لأنهما يمثلان جانبى الإنسانية كلها، إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانية كلها.. كما يقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} [13: الحجرات].. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الاختلاف النوعىّ بين الذكر والأنثى أمام القانون السّماوى على منزلة سواء- كانت التسوية بين الناس جميعا أمام هذا القانون أحق وأولى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملة حالية، وهذه الحالة قيد واقع على الشرط الذي لا يتحقق جوابه إلا وهو مقترن بهذا القيد.. فالإيمان شرط لازم لقبول العمل الطيب، والجزاء عليه.. وكل عمل لا يسبقه إيمان باللّه، هو عمل ضالّ، مردود على صاحبه.. لأنه قدّمه غير ناظر إلى اللّه سبحانه وتعالى، ولا محتسب له أجرا عنده، إذ كان غير معترف بوجوده.. فالعمل الصالح الذي لا يزكيه الإيمان باللّه، أشبه بالميتة التي لم تدركها زكاة بالذبح، ويذكر اسم اللّه عليها.
وقوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}.
المراد بالحياة، هى الحياة الدّنيا، وطيب هذه الحياة يجىء من نفحات الإيمان باللّه، تلك النفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة، والرضا، وتدفىء النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، وإليها مصائرها.. وذلك كلّه من عاجل الثواب الجزيل الذي أعدّه اللّه لعباده المؤمنين، كما يقول تبارك وتعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..} [134: النساء]- في قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} اختلف النظم هنا بعودة الضمير جمعا على أداة الشرط {من} بعد عودته عليها مفردا في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}، وذلك ليتحقق أولا لكل من جنسى الذكر والأنثى هذا الحكم، فإذا تقرر ذلك، وعرف كل منهما أنه مجزىّ عن عمله، بلا تفرقة من حيث النوع- عاد الضمير إلى من يشملهم الجنسين ممن يعملون الأعمال الصالحة.. من الناس جميعا.


{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة جاءت بوعد كريم من رب كريم، لعباده الذين يؤمنون باللّه ويعملون الصالحات، بأن لهم حياة طيبة في الدنيا، وأجرا عظيما في الآخرة- فناسب ذلك أن يقدّم للمؤمنين دستور إيمانهم، وكتاب شريعتهم، وهو القرآن الكريم، وأن يدعوا إلى تلاوته، ومدارسته، وتلقّى أصول الإيمان، وشريعة العمل.. من آياته وكلماته.
ومن آداب تلاوة القرآن، أن يستفتح التالي تلاوته بالاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم.. وذلك أن قارئ القرآن إنما يلتقى باللّه عن طريق كلمات اللّه التي يتلوها.. وإذ كان هذا شأنه، فقد كان من المناسب في هذا اللقاء الكريم أن يخلى نفسه من وساوس الشيطان، ومن كل داعية إليه، وأن يرجم الشيطان بمشاعر الإيمان التي يستحضرها وهو يتهيأ للقاء اللّه مع كلمات اللّه.. ثم يستعين على ذلك باللّه، فيدعوه متعوّذا به من هذا الشيطان الرجيم، الذي رحمه اللّه سبحانه بلعنته، وطرده من مواقع رحمته.
فالدعوة إلى الاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم، في هذا الموقف الذي يقف فيه الإنسان بين يدى كلمات اللّه، هى في الواقع دعوة إلى إعلان الحرب من داخل الإنسان على هذا الشيطان، الذي يتربص بالإنسان، ويقعد له بكل سبيل.. وبهذا يقبل قارئ القرآن على آيات اللّه بقلب قد أخلاه لها من كل وسواس.. وبهذا أيضا تؤثّر كلمات اللّه أثرها الطيب فيه، فينال ما شاء اللّه أن ينال من ثمرها المبارك.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هو تعليل لتلك الدعوة إلى الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الاستفتاح بتلاوة القرآن الكريم.. وذلك أن الإنسان إذا ذكر اللّه، واستشعر جلاله وعظمته، ولجأ إليه، مستعيذا به من وساوس الشيطان، وكيده، ومكره- إنه إذا فعل الإنسان ذلك فرّ الشيطان من بين يديه، ونكص على عقبيه مستخزيا ذليلا، ولم يكن له ثمّة سلطان عليه حينئذ، لأنه أصبح بذلك من عباد اللّه الذين يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [65: الإسراء].. وعباد اللّه، هم الذين يتعاملون مع اللّه، ويعادون عدوّ اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}.
الذين يتولون الشيطان هم الذين يوالونه، ويسلمون إليه زمام أمرهم، فلا ينظرون إليه نظر العدوّ المتربص بهم، ولا يلقون كيده، ومكره بأى شعور محاذر منه.
فهؤلاء هم أولياء الشيطان.. وهؤلاء هم الذين أصبحوا رعيّة للشيطان، يتسلط عليهم كيف يشاء، ويسوقهم إلى المرعى الذي يريد.. وهو مرعى وبيل.
لا ينبت في أرضه إلا الخطايا والآثام.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} الباء في {به} للسببية، والضمير يعود إلى الشيطان.. والمعنى أن الشيطان إنما يتسلط بسلطانه على من يستسلمون له، ويتخذون وليّا من دون اللّه، ويصبحون بسبب هذا الولاء له، من المشركين باللّه. لأنهم عبدوا الشيطان من دون اللّه.
قوله تعالى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
مع النسخ.. مرة أخرى:
أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة نصّ في تقرير النسخ في القرآن، وتبديل آية بآية.. ولهم على ذلك كلمة {بدّلنا} التي تدل على التبديل، وإحلال آية مكان آية.. ثم قوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ} فيه قرينة دالة على أن التبديل واقع في المنزّل من عند اللّه، وهو القرآن.. ثم ما يظاهر هذا من قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها}.
فهذه الآية جاءت صريحة بلفظ النسخ، على حين جاءت الآية السابقة بلازم النسخ، وهو تبديل آية بآية..!
ثم إنهم- بعد هذا، أو قبل هذا- يأتون شاهدا على ذلك بأكثر من رواية تحدّث عن سبب نزول هذه الآية.. وأنها كانت ردّا على المشركين، الذين كانوا كلما ورد نسخ لحكم من الأحكام التي كانت شريعة للمسلمين زمنا- قالوا: إن محمدا يقول ما يشاء، حسبما يرى.. ولو أن هذا القرآن كان من عند اللّه، لما وقع فيه هذا التناقض في الأحكام، ولجاء الحكم قولا واحدا، لا نقض له، ولا تبديل فيه!! هذه بعض مقولات القائلين بالنسخ، وتلك بعض حججهم عليه.
ونحن على رأينا الذي اطمأن إليه قلبنا، من أنه لا نسخ في القرآن.. وأن هذه الآية الكريمة- مع شيء من النظر والتأمل، ومع إخلاء النفس من ذلك الشعور المتسلط على جمهور المسلمين من أن النسخ في القرآن حقيقة مقررة، تكاد تكون شريعة يدين بها المسلم، ومعتقدا يعتقده- نقول إن هذه الآية الكريمة لا تفيد بمنطوقها أو مفهومها دلالة على النسخ.. وذلك:
أولا: منطوق الآية هو: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ}.
فلو كان معنى التبديل المحو والإزالة، لما جاء النظم القرآنى على تلك الصورة، ولكان منطق بلاغته أن يجىء النظم هكذا: {وإذا بدّلنا آية بآية}.
ولما كان لكلمة {مكان} موضع هنا.
فما هو السر في اختيار القرآن الكريم لكلمة {مكان} بدلا من حرف الجر وهو الباء؟ نرجئ الجواب على هذا الآن، إلى أن نفرغ من عرض القضية.
وثانيا: مفهوم كلمة {التبديل} بأنه محو وإزالة، أو تعطيل ونقض- يتعارض مع ما تنزهت عنه كلمات اللّه، من أي عارض يعرض لها، فيغيّر وجهها، أو ينقض حكمها، واللّه سبحانه وتعالى يقول مخاطبا نبيه الكريم: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [115: الأنعام] فكيف تبدّل كلمات اللّه، وينسخ بعضها بعضا، وينقض بعضها ما قضى به بعضها؟ واللّه سبحانه وتعالى يقول في وصف كتابه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً} [1- 2: الكهف] ويقول فيه سبحانه: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [28: الزمر] ويقول فيه سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [82: النساء].
وإذن فما تأويل هذه الآية؟ وما المراد بالتبديل لآية مكان آية؟
الجواب- واللّه أعلم- أن المراد بتبديل آية مكان آية هنا، هو ما كان يحدث في ترتيب الآيات، في السور، ووضع الآية بمكانها من السورة، كما أمر اللّه سبحانه وتعالى.. وذلك أن آيات كثيرة كانت مما نزل بالمدينة، قد وضعت في سور مكية، كما أن آيات مما كان قد نزل بمكة، ألحقت بالقرآن المدنىّ.
وهذا الذي حدث بين القرآن المكي والمدنىّ من تبادل الأمكنة للآيات بينهما، قد حدث في القرآن المكىّ، والمدني- كلّ على حدة- فكانت السورة المكية مثلا تنزل على فترات متباعدة، فتنزل فاتحتها، ثم تنزل بعد ذلك آيات آيات، حتى يتم بناؤها.
وعلى هذا، فإن تبديل آية مكان آية، هو وضع آية نزلت حديثا بمكانها الذي يأمر اللّه سبحانه وتعالى أن توضع فيه بين آيات سبقتها بزمن.. قد يكون عدة سنين..!
فقد اتفق علماء القرآن على أن آيات نزلت بمكة، ثم حين نزل من القرآن في المدينة ما يناسبها، أخذت مكانها فيه.. وهذا يعنى أنها نقلت من مكانها في السورة المكية، إلى مكانها الذي كانت تنتظره أو كان ينتظرها.. في السورة المدنية..!
ومن أمثلة هذا، قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.
فهذه الآية مكية باتفاق، وقد وضعت في سورة الأنفال، وهى مدنية باتفاق أيضا.
وهذا يعنى أن الآية من هذه الآيات كانت تأخذ مكانها مؤقتا في السورة المكية، حتى إذا نزلت سورتها المدنية أخذت مكانها الذي لها في تلك السورة.
ومن هذا أيضا قوله تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ..} إلى آخر سورة التوبة.. وهاتان الآيتان مكيتان، وقد وضعتا بمكانهما من آخر التوبة، وهى مدنية.
وهكذا كان الشأن في السّور المكية، فإنها كانت تستقبل جديدا من الآيات المدنية، تأخذ مكانها المناسب لها بين آيات السورة، حيث يأمر اللّه.
وذلك كثير في القرآن الكريم، وقلّ أن تخلو سورة مكية من دخول آية أو آيات مدنية على بنائها.
فهذا التدبير السماوي لبناء القرآن الكريم، وترتيب الآيات في السور- اقتضى أن تأخذ بعض الآيات أمكنة ثابتة دائمة، بدلا من أمكنتها الموقوتة التي كانت تأخذها بين آيات أخرى غير تلك الآيات التي استقرت آخر الأمر معها.
ولا شك أن كثيرا من المشركين والمنافقين، ومرضى القلوب، كانوا ينظرون إلى هذا التبديل والتغيير، الذي كان يؤذن النبي أصحابه وكتاب الوحى به- كانوا ينظرون إليه نظر اتهام للنبىّ بأنه إنّما يعيد بناء قرآنه، ويغيّر ويبدل فيه، ويصلح من أمره ما يراه غير مستقيم عنده، شأنه في هذا شأن الشاعر، ينشىء القصيدة، ثم يجرى عليها من التعديل والتبديل ما يبدو له: حتى تستقيم لنظره، وتقع موقع الرضا من نفسه.. هكذا فكروا وقدّروا! وإذن.. فما محمد والقرآن الذي معه، والذي يجرى عليه هذه التسوية، بالتبديل والتغيير في بنائه- إلّا واحدا من هؤلاء الشعراء، الذين يجوّدون شعرهم، ويسوّون وجوهه، فيكون لهم من ذلك تلك القصائد المعروفة بالحوليّات التي يعيش الشاعر معها حولا كاملا، يعالج ما فيها من عوج، حتى تستقيم له! وإذن، فما دعوى محمد بأن هذا القرآن من عند اللّه، إلا محض كذب وافتراء! هكذا كان يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض، في النبىّ الكريم، حين كانوا يرونه يصنع هذا الصنيع في ترتيب الآيات القرآنية في سورها، حسب الوحى السماوي الذي يتلقاه من ربّه.
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على هؤلاء السفهاء بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ}.
وروح القدس، هو جبريل، عليه السلام، وهو السفير بين اللّه سبحانه وتعالى، وبين النبىّ الكريم، بهذا القرآن الكريم.
وقوله تعالى: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليربط على قلوبهم، ويقوّى عزائمهم، ويثبت أقدامهم على طريق الإيمان، بما ينزل عليهم من آيات تؤنس وحشتهم، وتكشف لهم عن العاقبة المسعدة التي ينتهى إليها صراعهم، مع قوى البغي والعدوان.
فالثابت من تاريخ القرآن- كما قلنا- أن آيات كثيرة نزلت، ثم لم تأخذ مكانها في السور التي هى منها، إلا بعد زمن امتدّ بضع سنين..!
فهذه الآيات التي سبقت سورها، إنما كانت للتعجيل ببشريات للنبىّ وللمؤمنين.. معه.
فسورة الأنفال مثلا، وهى مدنيّة باتفاق.. قد ضمّ إليها سبع آيات كانت قد نزلت بمكة.. وهى قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [30- 36: الأنفال].
ففى ظلّ هذه الآيات استروح النبىّ والمؤمنون- وهم في مكة- أرواح الأمل والرجاء، ومن تلقاه هذه الآيات استقبل النبىّ والمؤمنون بشائر النّصر لهذا الدّين، الذي تلقّى على يد المشركين ألوانا من الكيد والمكر، وضروبا من السفاهة والجهل.
لقد كانت تلك الآيات، وكثير عيرها، هى الزاد الذي يتزود به النبي والمؤمنون، أثناء تلك الرحلة القاسية التي قطعها النبي والمؤمنون معه في شعاب مكة ودروبها، من أول البعثة إلى أن أذن اللّه سبحانه وتعالى له بالهجرة.
وبهذا الزّاد تقوّى النبي والمؤمنون معه على حمل هذا العبء الثقيل خلال تلك الرحلة المضنية القاسية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وقد اختصّ الذين آمنوا بالذّكر هنا، لأنهم كانوا في حاجة ماسّة إلى هذا الزّاد، ليثبتوا في مواقفهم، وليصبروا على هذا البلاء الذي كانوا فيه، انتظارا لهذا الوعد الكريم الذي وعدهم اللّه سبحانه وتعالى به، فيما سيأخذ به المشركين من خزى وخذلان، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها.. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.. ثُمَّ يُغْلَبُونَ.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
ولم يذكر النبىّ الكريم هنا لأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- محفوف دائما بألطاف ربّه، وعلى يقين راسخ من نصر اللّه.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه،- يحمل في كيانه من قوى الحقّ والإيمان ما لا تنال منه الدنيا كلها لو اجتمع أهلها على حربه والكيد له. وفى هذا يقول صلوات اللّه وسلامه عليه لعمه أبى طالب: {واللّه يا عمّ لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه.. ما تركته}! وهذه الظاهرة في القرآن الكريم، من تبادل الآيات أماكنها خلال الفترة التي نزل فيها، تقابلها ظاهرة أخرى، وهى نزول القرآن منجّما، خلال ثلاث وعشرين سنة، حيث لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل آية آية، وآيات آيات، حتى كمل، وتمّ بناؤه على الصّورة التي أراده عليها سبحانه وتعالى كما تلقاه النبي الكريم من جبريل، في العرضة الأخيرة التي كانت بينهما، بعد أن تم نزول القرآن، قبيل وفاة النبي بزمن قليل.
فهناك إذن عمليتان، قام عليهما بناء القرآن الكريم، وهما:
أولا: نزوله منجما.. أي مفرقا.
وثانيا: نزوله غير مرتب الآيات في السور.
وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى عن السبب الذي من أجله كان بناء القرآن على هذا الأسلوب.
أما عن نزول القرآن مفرقا، فاللّه سبحانه وتعالى يقول ردّا على المشركين الذين أنكروا أن يحىء القرآن على هذا الأسلوب: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [32- 33: الفرقان].
فتثبيت فؤاد النبي هو من بعض ما في نزول القرآن على تلك الصورة، من حكمة.
وأمّا عن نزول القرآن غير مرتب الآي، فقد رأينا أن من حكمته تثبيت قلوب المؤمنين، بما تحمل إليهم الآيات التي تسبق سورها، من بشريات، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ}.
ففى هذا التدبير، من نزول القرآن الكريم غير مرتب الآي،- في هذا ما يسمح بنزول بعض الآيات متقدمة زمنا على سورها التي ستلتقى بها، وتأخذ مكانها فيها، بعد أن يتم نزول القرآن كله.
وفى هذه الآيات التي كانت تنزل متقدمة زمنا على سورها، تثبيت لقلوب المؤمنين، وهدى لهم، وبشرى بالمستقبل المسعد الذي ينتظر الإسلام، وينتظرهم معه.
ولو كان معنى قوله تعالى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ} لو كان معنى ذلك، نسخ آية بآية، لما كان من المناسب أن يكون التعقيب على ذلك قوله تعالى: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ}.
إذ أن النسخ للآيات القرآنية، ليس من شأنه أن يثبّت قلوب المؤمنين، بل إنه يكون داعية من دواعى الإزعاج النفسىّ، بسبب تلك الآيات التي يعيش معها المسلمون زمنا، ثم يتخلّون عنها.. ثم إنه من جهة أخرى لا يحمل النسخ على إطلاقه، بشريات للمسلمين.. إذ أن أكثر ما وقع النسخ- كما يقول القائلون به- على أحكام مخففة، نسخت بغيرها، مما هو أثقل منها، كما يقال في الآيات المنسوخة في الخمر وفى الربا، وفى حدّ الزنا.
ثم- قبل هذا كله- إن هذه الآية: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ}.
هى مكية النزول، بل من أوائل القرآن المكىّ، حيث لم تكن قد شرعت الأحكام بعد، في العبادات، والمعاملات، وفى القتال، وما يتصل به من غنائم، وأسرى، وغير ذلك مما يمكن أن يرد عليه النسخ، إن كان هناك نسخ.. إذ أن النسخ، إنما تناول الأحكام الشرعية وحدها.
هذا، وقد استدل القائلون بالنسخ في القرآن بآية أخرى، هى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} [52- 53: الحج].. وسنعرض لهذه الآية في موضعها إن شاء اللّه.. وحسبنا أن نقول هنا: إن النسخ وارد على ما يلقى الشيطان، لا على آيات اللّه، وأن اللّه سبحانه وتعالى يحكم آياته ولا ينسخها.. وإذن فلا نسخ في آيات اللّه.
ولعل في قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [114: طه].. لعل في هذا ما يشير إلى شيء من هذا التدبير السماوي في نزول القرآن غير مرتّب الآي، إذ ربما كان صلى اللّه عليه وسلم تتنزل عليه الآية من القرآن، غير منسوبة إلى سورة من السور التي نزلت، فيبادر إلى وصلها بما سبقها أو لحقها، حتى لا تظل في عزلة، بين سور القرآن التي تتلى في الصلاة، أو ترتّل في غير الصلاة.. فجاء قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ليدفع عن النبي هذا الشعور من القلق على تلك الآيات المفردة أن ينظر إليها غير تلك النظرة التي للقرآن الذي جمعت آياته، وتمت سورة!.. فتلك دعوة للنبىّ ألّا يعجل ببناء القرآن قبل أن يتمّ وحيه إليه به، إذ ما زال هناك قرآن كثير لم ينزل بعد، وفى هذا القرآن الذي سينزل علم كثير، يزداد به النبي علما إلى علم.
ويؤنسنا في هذا الفهم لتلك الآية الكريمة، ما نجده في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} [16- 19: القيامة].. ففى هذه الآيات ما يكشف عن مشاعر النبي نحو تلك الآيات التي كانت تتنزل مفردة غير منسوبة إلى سورة من السور، وإشفاقه من أن تفلت منه حيث لم ترتبط بغيرها من آيات القرآن وسوره.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}.
تطمين للنبى بهذا الوعد الكريم من اللّه سبحانه، بأنه جل شأنه، هو الذي سيتولى جمع هذا القرآن المفرّق، وبناءه على الصورة التي أراده اللّه سبحانه أن يقرأ عليها.. وذلك ما كان بعد أن تمّ نزول القرآن، وانقطع الوحى، فكان القرآن على تلك الصورة، التي تلقاها النبىّ من جبريل، في العرضة الأخيرة للقرآن، ثم تلقاها من النبي الصحابة وكتّاب الوحى.. ثم تلقاها المسلمون.. جيلا بعد جيل، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين.


{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
هو رد على المشركين الذين أشار إليهم قوله تعالى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ}.
فهم- أي المشركون من قريش- يتهمون النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بهذه التهمة، وأنه يفترى على اللّه الكذب، إذ يقول إن هذا القرآن منزل عليه من اللّه.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا، بل يرمون النبىّ بأنه لا يفترى هذا الافتراء من ذاته هو، بل يستعين على ذلك بأهل العلم، الذين يتصل بهم، ويتلقى عنهم ما يجىء به من مفتريات.. وذلك أنهم إذ يرون هذا العلم الذي تحمله آيات اللّه وكلماته، لا يرون أن مثل محمد- وهو واحد منهم- يستطيع أن يكون عنده شيء من هذا، ولكنه باتصاله بأهل الكتاب، وبأخذه عنهم، يمكن أن يفعل هذا، وأن يحدثهم بما يحدثهم به من أخبار الأولين، وفى هذا يقول اللّه تبارك وتعالى عنهم: {وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [5: الفرقان].
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} بالتعبير بفعل المستقبل- إشارة إلى أن علم اللّه محيط بهم، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما قالوا، وما سيقولون من تلك المقولات المنكرة، التي يقولونها في النبي الكريم، وفى كتاب اللّه الذي بين يديه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} إلفات لهم إلى كلمة {بشر} وإلى أنه يجب أن يقفوا عندها، وأن ينظروا في هذا القول الذي يقولونه من غير رويّة، ولا تدبر.. وهل في استطاعة بشر- أيّا كان- أن يأتى بمثل هذا القرآن؟ أليسوا هم بشرا؟ فما لهم إذن لا يأتون بسورة من مثله؟.. ثم ما لهذا البشر الذي يعلم محمدا ألّا يأخذ مكان محمد، ويدّعى لنفسه هذا الذي يدّعيه محمد من أنه نبىّ، وأنه متصل بالسّماء، يتلقى منها هذا القرآن؟
وقوله تعالى: {لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ.. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
هو فضح لهذا المنطق السقيم، الذي أقام عليه المشركون اتهامهم للنبى.!
فالبشر الذي {يلحدون إليه}.
أي يشيرون إليه، ويتخذونه تكأة يتكئون عليها في هذا الاتهام- هذا البشر، هو رجل أعجمىّ، لا يحسن العربية، ولا يستقيم لسانه عليها.. وهذا القرآن الذي بين يدى محمد، هو بلسان عربىّ مبين، قد تحدّى ببيانه وفصاحته بلغاءهم، وفصحاءهم، وأهل اللّسن فيهم، من خطباء وشعراء.. فما لهم وهم أصحاب هذا اللسان، ألا يقفوا لمحمد، ويتحدّوه يقول كقوله، وحديث كحديثه؟.. ثم ما لهم لا يتلقون أخبار الأولين من هؤلاء الأعاجم، ثم ينسجونها بلسانهم العربىّ كما نسجها محمد؟ تلك حجة داحضة، وقول هزل! وقد اختلف في اسم هذا الأعجمى الذي يشير إليه المشركون، كما اختلف في أهو يهودى أم نصرانىّ! وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
الذين لا يؤمنون بآيات اللّه، هم هؤلاء المشركون، وهم كلّ من في قلبه مرض، وفى عقله دخل، فلا يلتفت إلى آيات اللّه، ولا يفتح عقله وقلبه لها، بل يلقاها معرضا منكرا، ويمرّ بها مجانبا مجافيا.. فهؤلاء الذين يقفون من آيات هذا الموقف، لا يهديهم اللّه، ولا يمدّهم بأمداد توفيقه وهدايته.. لأن {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}.
{وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} جزاء هذا الضلال، وهذا الصدّ عن آيات اللّه.
قوله تعالى: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ} هو اتهام لهؤلاء المشركين، بأنهم هم الذين يفترون الكذب ويتعاملون به، ولا يجدون حرجا في أن يكذبوا، ويكذبوا، في غير حياء! إنهم لا يؤمنون بآيات اللّه، ومن ثمّ فهم لا يؤمنون باللّه، ولا يخشون عقابه.
ولا يجدون في أنفسهم وازعا يزعهم عن الكذب والافتراء على اللّه.
أما الذين يؤمنون بآيات اللّه، فإنهم يؤمنون باللّه، ويوقّرونه، ويخشون عذابه.. فلا يخرجون عن الجادّة، ولا يقبلون أن تكون كلمة الكذب من بضاعتهم! وفى هذا دفاع عن النبىّ، ودفع لهذا الاتهام المفترى، الذي يتهمه المشركون به.. كما أنه دمغ للمشركين بالكذب والافتراء حيث حكم اللّه سبحانه وتعالى عليهم هذا الحكم الأبدى بقوله: {وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ}.
حتى لكأن الكذب مقصور عليهم وحدهم، من دون الناس جميعا.. فهم أصل في الكذب والافتراء، ومن سواهم تبع لهم، يقتدى بهم، ويتعلق بأذيالهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7